الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
وقد جاء في فضلها حديث لا يصح، رويناه عن محمد بن محمد بن عبداللّه الحضرمي قال: قال لي أبو عبدالرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب، فاكتب عنه فإنه قد كتب، فذهب إليه، فقال: قلت: خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ، ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل: لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فأراد بقراءته عليه، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد؛ قال حدثنا علي بن الجعد، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال: في قراءة أبيّ بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللّه على من تاب. قال عكرمة. قرأ علي عاصم {لم يكن} ثلاثين آية، هذا فيها. قال أبو بكر: هذا باطل عند أهل العلم، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب، لا يقرأ فيها هذا المذكور في {لم يكن} مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الإجماع: أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة. {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة} قوله تعالى{لم يكن الذين كفروا} كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود{لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح {فطلقوهن لقبل عدتهن} وهو تفسير؛ فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف . قوله تعالى{من أهل الكتاب} يعني اليهود والنصارى {والمشركين} في موضع جر عطفا على {أهل الكتاب}. قال ابن عباس {أهل الكتاب}: اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها؛ وهم مشركو قريش. {منفكين} أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. {حتى تأتيهم البينة} أي أتتهم البينة؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل{منفكين} زائلين؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح؛ ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة: وقال ذو الرمة: يريد: ما تنفك مناخة؛ فزاد {إلا}. وقيل{منفكين}: بارحين؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله قوله تعالى{رسول من الله} أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج{رسول} رفع على البدل من {البينة}. وقال الفراء: أي هي رسول من اللّه، أو هو رسول من اللّه؛ لأن البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود {رسول} بالنصب على القطع. {يتلو} أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة. {صحفا} جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. {مطهرة} قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة: من الباطل. وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب؛ لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و{مطهرة}: من نعت الصحف؛ وهو كقوله تعالى وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان. {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} قوله تعالى{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إلا من بعد ما جاءتهم البينة} أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن؛ كقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} قوله تعالى{وما أمروا} أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله} أي ليوحدوه. واللام في {ليعبدوا} بمعنى {أن}؛ كقوله قوله تعالى{حنفاء} أي مائلين عن الأديان كلها، إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل: الحنيف: من اختتن وحج؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام؛ أي مال إليه. {ويقيموا الصلاة} أي بحدودها في أوقاتها. {ويؤتوا الزكاة} أي يعطوها عند محلها. {وذلك دين القيمة} أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. و{القيمة}: نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الأمة القيمة بالحق؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله {وذلك الدين القيم}. قال الخليل{القيمة} جمع القيم، والقيم والقائم: واحد. وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث، الطالقاني {القيمة} ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها. {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} قوله تعالى{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} {المشركين}: معطوف على{الذين}، أو يكون مجرورا معطوفا على {أهل}. {في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين؛ من قولهم: برأ اللّه الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} قوله تعالى{جزاؤهم} أي ثوابهم. {عند ربهم} أي خالقهم ومالكهم. {جنات} أي بساتين. {عدن} أي إقامة. والمفسرون يقولون{جنات عدن} بطنان الجنة، أي وسطها؛ تقول: عدن بالمكان يعدن [عدنا وعدونا]: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى: {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} لا يظعنون ولا يموتون. {رضي الله عنهم} أي رضي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس. {ورضوا عنه} أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. {ذلك} أي الجنة. {لمن خشي ربه} أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي
|